الصحافة البريطانية تكشف عن مضمون عروض امريكية مغرية لصنعاء        كهرباء عدن ....ماساة الصيف المتكرره تحت جنح الفشل والفساد الحكومي        غروندبرغ : نعمل على إطلاق الاسرى وتحسين القطاع الاقتصادي والمالي         مركز بحري دولي يحذر من سلاح يمني جديد      
    ثقافة وفكر /
أيوب.. يا جلالات العطاء

2009-12-23 16:27:15


 
في لقائين متقاربين عامي (2002-2003م) اجتمعت ببلبل اليمن الصداح أيوب طارش داخل عشه الجميل بمدينة تعز - امتد اللقاءان من وقت الظهيرة إلى منتصف الليل- قال فيهما أيوب الشيء الكثير نشرنا بعض ما تيسر في (صحيفة الثقافية) حينما كانت ملء البصر، واليوم نخرج من شريط الذكريات ما نحسبه موائما للحظة المعاشة. أيوب حنجرة الوطن وإحدى جمالياته التي يزهو بها، كيف لا وهو من أكرمنا بفن رفيع متجدد طالما اغترفنا من نهره الزاخر ما أروى عطش القلوب، فحاجتنا لهذا الفن تتزايد اليوم أكثر من ذي قبل بعد أن ضرب الجفاف أعماقنا (وأوغلنا في كراهية بعضنا وسحق ذواتنا)!! أيوب الذي غادر إلى ألمانيا للعلاج يعاني من ألم النكران والجحود أكثر من آلامه الجسدية كون جلالات العطاء لم تعن لمسئولي الجهات المعنية التي تاهت لديها توجيهات الرئيس لم تعن سوى وضاعة النهب والاستحواذ وحرمان الشرفاء والأوفياء نعم هكذا يفهمون وهذا سبب البلاء.  لقاء/ عبدالحافظ الصناعي فوق السياسة  *كنت الفنان الوحيد الذي يغرد في صنعاء وفي عدن بنفس المنوال والوتيرة ولك من القبول والجماهيرية النصيب الأوفر، كيف كنت ترضي نظامي الشطرين وهما على طرفي نقيض، هل تعرضت لمساءلة في ظرف ما أو محاولة استقطاب؟  -هل تصدق أنه لم يخطر لي ببال هذا الامر -من يرضى أو يغضب- كنت مدفوعا بإحساس جارف بأنني أؤدي رسالة وحسب ولم يحدث أن تعرضت لشيء مما ذكرته، كان الجميع يرحب بي وتسير الامور على ما يرام. *لكن هل كان أيوب يميل شعوريا إلى نظام أو اتجاه معين؟  -الأمر ليس كذلك، فالشعور عند الجميع تلك الفترة كان شعورا ثوريا، ثم أننا التزمنا منذ البداية أن نقدم للناس فنا غير مسيس وكلمة ترتقي بالأذواق بعيدا عن الانتماءات، فليس هناك أجمل من فن يجمع ولا يفرق، فهذا الذي يدوم ويتجدد ويصلح لكل المراحل، فقد وفقني الله بالشاعر العظيم/ عبدالله عبدالوهاب نعمان الذي أمدني بالكلمة الراقية المعبرة عن هموم وتطلعات الناس، ونصيحته المكررة لي أن لا أغني سوى الكلمة التي تحترم عقول الناس و"سيبك يا أيوب من اللفلفة" أي عدم غناء أي كلام يقع في يدي ولله الحمد كل ما أخرجته من أغان تقبلها الناس بإعجاب.  *عاصرت تقلبات سياسية ومنعطفات عديدة ما كان أثرها على فن أيوب؟  -عندما التقيت بالشاعر الفضول شعرت من أول وهلة بأني وجدت ضالتي، فهو من الرعيل الأول ممن عصرتهم الحياة والتجارب، فكان في شعره مثل طبيب ماهر استطاع أن يشخص الداء ويأتي له بالدواء..  شعره عبارة عن علاجات روحية ووجدانية لأنه كان يرى أن القلوب إذا أقفرت من حب الجمال وحب الوطن توحشت وسكنها الشر، على ذلك تماهيت مع شعر الفضول الذي عرفت به وعرف بي. على سبيل المثال عندما حدثت حرب الشطرين في 1979م كان الفضول متألماً جدا من احتراب الإخوة، فكتب رائعته الوطنية (املأوا الدنيا ابتساما...) وهي دعوة للسلام والمحبة والسمو فوق الخلافات، أتذكر أني استحضرت لحنها وأنا في إحدى فنادق مدينة حجة، غرفة على السطوح أطل منها على ما يسر النظر ويبهج القلب، انهمكت في لحن الأغنية مأخوذا بالشجن والألم معا والتأسف لما يجري.  *في اللقاء السابق قلت إن الفضول كتب أنشودة للوحدة (هذه يومي..) وأنه كان يتمنى أن تتخذ نشيدا للوطن، ما الذي جعل الرجل يتوقع أن الوطن سيتخذ من شعره نشيدا ذات يوم؟  -قضية الوطن كانت هم الشاعر وشغله الشاغل وهذا ما يتجلى من خلال أشعاره الوطنية وحتى العاطفية، هو كان يرى أن مستقبل اليمن يبدأ حين يتوحد، فالحروب والصراعات سببها التجزئة التي ورثناها من الاستعمار، فلذلك جاءت أنشودة (هذه يومي..) تجسيدا لهذه الرؤية، ثم إن موهبة الشاعر الفريدة قد فرضت نفسها.  هذه يومي فسيروا في ضحاها  الضحى أشرق منها واكتساها  وأتى الخير إلى هاماتنا  لاثما منا أنوفا وجباها  واستعار المجد من قاماتنا  قامة لم يعطه طولا سواها  *ما كان شعورك عندما تم اعتماد النشيد الوطني الذي صغت لحنه الجميل ليكون نشيدا للجمهورية اليمنية؟  -أكيد الارتياح ولكن ليتهم حافظوا على النغمة الجميلة التي كانت في الإخراج والتسجيل الاول، كانت تعطي ألقا أجمل وحماساً أقوى للنشيد، ثم إن تحريف كلمة (أمميا) لم يكن إجراء موفقاً، فالشاعر كما يعرف الكل كان أممي الفكر والدين وأكبر من أن يحصر نفسه في زاوية ضيقة. *أتذكر قولا للكاتب/ محيي الدين علي سعيد، لو لم يعط الفضول وأيوب للوطن غير هذا النشيد (رددي أيتها الدنيا نشيدي..) لكفاهما على امتداد الدهر. لماذا لم يستثمر أيوب هذا الإنجاز الكبير في مواجهة الإهمال الرسمي؟  -أنا أديت رسالة وواجباً، وكنت أتمنى لو أن الظروف ساعدت لتقديم المزيد لوطني وشعبي، والإنصاف الذي تتحدث عنه ليس من شأني ومسئوليتي فقط في تقديم ما يفيد الناس من أغان هادفة.  الوضع الشخصي *حدثني عن وضعك الشخصي والعائلي، كيف تسير أمورك؟  -لدي خمسة أبناء، أربعة أولاد وبنت، منهم من يسكن معي في المنزل ومنهم من يستأجر في مكان آخر من المدينة لضيق المكان مقارنة بعدد أفراد العائلة.. بالنسبة للمنزل تم بناؤه بعد أن حضرت أنا والفنان الحارثي حفل زفاف ابن تاجر يمني في (الحبشة) مطلع السبعينيات استلمت مبلغا طيبا وقتها مكنني من بناء الدور الأول، واستقريت بعد مدة قصيرة من السكن بالإيجار بعد أن تم استكماله طوبة طوبة. وبالنسبة لمردود الأغاني هو ليس بذلك القدر الذي يتصوره البعض، فكثير منا يمر بظروف إلى حد أننا نمشي على الحديدة وبالذات منذ توقفت عن الغناء. أما وظيفيتي فأنا أشغل وظيفة متواضعة في البنك اليمني للإنشاء منذ سكنت تعز وكثر الله خيرهم أنهم كانوا يعطوني تفريغا للمشاركة في كثير من المناسبات.   قطيعة مع شعر الفضول!! *آخر ألبوم مميز سمعناه كان (مهلنيش) عام 1991م يحوي روائع للفضول.. أخبرني بصدق ووضوح تام عن السبب الذي منع أيوب من الاستمرار في إخراج قصائد الفضول، فهذا يهمنا جميعا؟  -شريط مهلنيش كلفني كثيرا لتسجيله في القاهرة حتى أني اقترضت المال لأجل ذلك، بعد نزول الشريط إلى السوق أتى بعض أبناء الشاعر يطالبون بالمردود المالي الذي يخص الشاعر و(بأثر رجعي)، أي حق الأغاني السابقة وهو مطلب تعجيزي، وموقف حز في نفسي، ففضلت التوقف عند هذا الحد حتى لا نسيء للعلاقة الروحية التي ربطتني بالمرحوم الفضول على مدى 15 عاما إلى وفاته عام 1982م. *يصعب علي تخيل أن أيوب قضى 12 عاما حتى الآن مبتعدا عن شعر توأم روحه الفضول ولهكذا سبب كان يمكنك خلال هذه المدة إنجاز أعمال غنائية كثيرة، ألا ترى معي أن هذا خطأ فادح ما كان يجب أن يحدث من أساسه؟  -ما كان باليد حيلة، والذي قدر له أن يخرج للناس قد تم بيسر وتوفيق من الله، وأنا بطبعي لا أحتمل المهاترات والأخذ والرد. *هل حاولت الجهات الرسمية أو شخصيات اجتماعية التدخل لحل المشكلة بينك وبين أبناء الشاعر الفضول؟  -لم يحدث وتوالت السنوات.  مواقف  *موقف مؤثر أو طريف لا زال عالقاً في ذاكرتك؟  -الموقف المؤثر كان في رحيل أستاذ الشعر عبدالله عبدالوهاب وهو كان في ذروة مجده وعطائه.  أما الموقف الطريف والمؤثر بنفس الوقت.. فكان حين أقامت الجالية اليمنية في بريطانيا حفلا فنيا وكنت مدعوا فيه فقدمت أغنية (نوح الطيور) وأثناء انهماكي في أداء الأغنية إذا بصوت مرتفع لرجل من داخل القاعة يجهش بالبكاء الشديد ما اضطرنا لوقف الأغنية وتهدئة روع الرجل الذي يبدو أنه كان يعاني من ظروف الغربة وبعده عن الأهل والوطن.  طقوس  *ما هي طقوس أيوب طارش لاستدعاء الألحان؟  -أنا أسبح بخيالي في عالم اللحن وكلما كانت الكلمة قوية ومعبرة أتى اللحن سريعا وانسيابيا، وليس هناك من طقوس محددة سوى لحظات الانسجام عندما استلم قصيدة ترضيني كلماتها، ففي هذا المكان الذي نتحدث فيه استوحيت ألحان أغان كثيرة أبرزها وآخرها (طائر أم غرب- صابر صبر أيوب- يا من رحلت إلى بعيد) ثم أنزوي في غرفتي مع العود لتطبيق اللحن.  *(تعز) بسحرها الخاص أراها مصدر إلهام لأيوب طارش، أليس كذلك؟ -بالتأكيد فتعز مدينة الحب والجمال والسلام والتنوع، فيها الطمأنينة ولين الطباع، وفيها المناظر الخلابة كجبل صبر ووادي الضباب وريف تعز كله غاية في الجمال عندما يكتسي بالخضرة، كل ذلك مصدر إلهام لكل متذوق. *جميع ما ذكرته من أماكن خلدتها في روائعك الغنائية ما أقربها إلى نفسك؟  -كل منها له نكهة وذكريات.. ويبقى ما غنيته للفضول الأقرب إلى نفسي مثل (طاب البلس- وادي الضباب) لقوة وصدق الكلمة وما تحمله من معان وأحاسيس عميقة.    أمنية وطن *بعد اللقاء الأول نقلنا طلبك عبر الصحيفة إلى الجهات المختصة لتمكينك من تجديد الأناشيد الوطنية بوسائل حديثة ولم يأت رد ما تفسيرك لهذا التجاهل الرسمي؟  -لا أدري مع أنه كان يفترض أن يبادروا هم ويطلبوا مني تجديدها وإخراجها بأفضل صورة وهذا لا يكون إلا في الخارج، حيث الوسائل الحديثة، فهذه الأناشيد ثروة لا تقدر بثمن وهي ملك للأجيال.  عند هذه الأمنية نتوقف ولتلاحظوا عمق الأمنية وتجرد صاحبها من الذاتية، قالها أيوب قبل 8 سنوات من الآن وهو يشعر بأنه ما زال مفعما بما وهبه الله من طاقة إبداعية لكن هذه الأمنية تحطمت أمام الجحود والتجاهل من قبل الجهات الرسمية التي بيدها الأمر والنهي، مع أننا كررنا نشرها، وأقلام أخرى كثيرة فعلت نفس الشيء لسنوات عديدة، كذلك طالبنا مرارا بإعادة كلمة (أمميا) إلى وضعها الطبيعي في النشيد وكان في الطليعة الكاتب محيي الدين علي صاحب الكتاب الأروع والأوحد الذي رصد تاريخ الثنائي الفضول وأيوب.. حتى أتى الأستاذ/ يحيى محمد عبدالله صالح قبل عامين تقريبا ليكتشف أخيرا المعنى الحقيقي لكلمة أمميا وبشخطة قلم أوصل الموضوع إلى مجلس الشورى وكان له ما أراد (وسبحان الذي أسرى بعبده...)!! رسالة إلى النظام  ما أبأسك اليوم وأنت تسترق من أناشيد أيوب ما قد يشد أزرك المرتخي ويستر خوازيقك الكثيرة فيما أيوب ذاته ضحية فسادك وظلمك.. ما أتعسك وأنت تحتمي بمكانة أيوب في قلوب الجماهير لتستمد منها ما قد تظنه مهابة وشرعية وقبولاً، لن تظفر بها يقينا ما لم تتعلم من أيوب كيف يكون العطاء وكيف السبيل المؤدي إلى قلوب الناس وذاكرة التاريخ وليت الزمان يجود بألف أيوب وأيوب.




جميع الحقوق محفوظه لدى صحيفة الوسط 2016 

التصيميم والدعم الفني(773779585) AjaxDesign