غروندبرغ : نعمل على إطلاق الاسرى وتحسين القطاع الاقتصادي والمالي         مركز بحري دولي يحذر من سلاح يمني جديد         مركز بحري دولي يحذر من سلاح يمني جديد        صنعاء تعلن فتح طريق البيضاء ـ الجوبة ـ مارب من طرف واحد      
    من هنا وهناك /
الحلقة (1)
التعليم الذي نريد: بين ثقافة الإقصاء وثقافة الشراكة المجتمعية

17/07/2013 20:09:18


 
الوسط - خاص
تنشر "الوسط" على ثلاث حلقات دراسة مهمة حصلت عليها حصريًّا، وأعدها مجموعة من الدكاترة المتخصصين في دار الحادي للاستشارات والدراسات والأبحاث في محافظة تعز حول التعليم في اليمن،
وتشخيص واقعه، والمؤثرات الكابحة وطرق الارتقاء به على أسس منهجية وواقعية، بالإضافة إلى دور عدد من المدارس الخاصة التي تمارس الدور الذي كانت تقوم به المعاهد العلمية "وقوعُ الاختلافِ بين الناس أمرٌ ضروري لا بُد منه لتفاوتِ أغراضِهم وأفهامِهم وقوى إدراكهم؛ ولكنَّ المذمومَ بغيُ بعضِهم على بعضِ وعدوانُه."( العلامةُ ابنُ القيم)
"إذا كنت تعتقد أن التعليم مُكلفاً، فجّرب الجهل." (ديريك بوك)
مقدمة:
منذ أن صبغ المعلمون الأوائل التعليم بمُثُلٍ عليا، والتربويون يحملون رسالة نبيلة تعكس تلك المُثُل العظيمة. فهم يعطون بلا حدود، ويحملون ضمائر نقية تُعبر عن روح ومضمون رسالة التربية، ويمثلون القدوة في ممارساتهم المهنية، وهم بذلك يقومون بدورهم الإنساني الرائد لبناء الأجيال وتوجيهها إلى ميادين العلم والمعرفة والإبداع. وهذا ما أكسب مهنة التعليم مكانتها عبر التاريخ فجعلها من أنبل المهن التي تتجلى فيها كل معاني الخير والعطاء والقيم الإنسانية الأصيلة.
يدفعنا التدهور الذي أصاب التعليم، خلال السنوات الماضية، إلى التذكير بتلك المثل العليا للتربية وإلى التأكيد على نبل رسالة المشتغلين فيها. كما يتزايد اهتمامنا بها، في عصرنا الحالي، بعد أن لمسنا التنافس الشديد بين الأمم لتحقيق السبق فيها، وتنبهها إلى أهمية التسلح بالتعليم لتحقيق الريادة في العالم. وهذا يجعل مهمتنا أكثر صعوبة، ومناداتنا بضرورة توفير فرص تعليم جيدة وجعلها أولى أولويات الدولة والمجتمع والتربويين أكثر إلحاحاً؛ لأن لذلك العمل أهمية محورية في بناء قدرات أبنائنا وبناتنا ليسهموا بفاعلية في مسيرة التطور الإنساني، وهي مهمة سامية ينبغي أن يسعى إلى تحقيقها كل معلم يحمل رسالة بين جنباته.
التعليم ومتطلبات العصر:
لقد أثبتت التجارب البشرية عبر التاريخ أن الأمم لا ترقى إلا من خلال نظام تربوي محكم البناء، يصمم وينفذ ويقوّم بتكاتف وتعاون المنظومة الاجتماعية ككل، والتي تشكل التربية أهم عناصرها. والمثل القديم يقول: "يتطلب تربية الطفل تعاون القرية بأكملها."
واليوم، وفي مجتمع يتميز بالاعتماد المتزايد على المعرفة، وترسيخ قيم الديمقراطية، ليس من اليسير إعداد المتعلمين للولوج إلى القرن الحادي والعشرين دون تأسيس نظام تربوي عصري قادر على إكساب المتعلمين معارف حديثة وقدرات ومهارات تكون ذات أولوية لتشكيل حياتهم، ودون غرس قيم العصر التي تعدهم لأن يعيشوا حياة مجتمعية مستقرة قائمة على أساس القبول بالآخر والتعدد والتسامح والإخاء.
ومن أبرز المتطلبات التي ينبغي أن يستجيب لها النظام التربوي العصري، ما يأتي:
1- المعارف والمهارات:
تعتبر المعارف والمهارات المختارة بعناية لتمكين أبنائنا وبناتنا من العيش في حياة عصرية من أبرز متطلبات عصرنا الحالي. وهي معارف ومهارات يجب أن تبنى على فهم الماضي وتحليله والاستفادة من عبره، وتتعداه منطلقة نحو المستقبل بآفاقه الرحبة بما يسمح للمتعلمين إطلاق طاقاتهم الكامنة لتحرير قدراتهم الإبداعية والابتكارية. فنحن نعيش في عصر يرتكز بصورة رئيسة على كثافة المعرفة ومدى القدرة على تطبيقها في الواقع، إن لم نقل تسويقها أو تسليعها (أي تحويل الأفكار إلى منتجات يستفيد منها في الحياة)، وهذا يتطلب منا قدرًا من الحكمة في اختيار معارف ومهارات معيّنة تمكن المتعلمين من العيش فيه بنجاح.
ومن أهم المهارات التي يتطلبها هذا العصر الآتي:
‌أ- القدرة على التفكير والعمل الناقدين، بحيث يصبح المتعلمون قادرين على تعريف المشكلة في مجالات معقدة ومتداخلة وغير محددة؛ واستخدام الأدوات والخبرات (بشرية وإلكترونية) في البحث والتحليل؛ والتوصل إلى حلول وتطبيقها؛ وتقويم النتائج وتحسين الحلول باستمرار تبعًا لتغيّر الظروف.
‌ب- القدرة على الابتكار وبالذات ابتكار حلول جديدة لمشكلات جديدة، واكتشاف مبادئ جديدة، واختراع منتجات جديدة لتنفيذ أفكار جديدة، وتوظيف طرق مبتكرة لإدارة العمليات والأفراد.
‌ج- إتقان مهارات التعاون والعمل ضمن فريق؛ كونها الاختيار الوحيد لحلّ المشكلات المعقدة أو لابتكار الأدوات والخدمات والمنتجات المعقدة.
‌د- فهم الثقافات الأخرى والتفاعل معها بإيجابية بما يمكن المتعلمين من ردم الهوة الاجتماعية والسياسية والثقافية بينهم وبين الثقافات الأخرى، لكي يؤدوا أعمالهم بنجاح عند تعاملهم مع آخرين من ثقافات متعددة، حيث تبين أن أهمية فهم الثقافات الأخرى تزداد في عالم اليوم الذي يتصف بأنه متعدد الثقافات متشابك المصالح.
‌ه- اكتساب مهارات الاتصال بما يساعد المتعلمين على توظيف مهارات تواصل فعّالة بوسائل متعددة ولجمهور متنوع، وإلى اختيار الوسيلة المناسبة للرسالة المناسبة لجمهور معيّن، وإنجاز ذلك بفاعلية وكفاءة.
‌و- القدرة على استخدام الحاسب الآلي وتقنيات المعلومات بما يمكن المتعلمين من التعامل مع تقنية الحاسب الآلي وتقنيات المعلومات بمهارة تفوق مهارات الثقافة المعلوماتية أي مستوى أعلى من مهارات الإتقان الرقمي.
‌ز- الحصول على وظيفة، والاعتماد على النفس؛ لأنه العمل المؤقت تبعًا لعقود عمل غير دائمة سوف يتزايد في المستقبل، وبالتالي سيحتاج الأفراد إلى إدارة مسارات وظائفهم والاستمرار في التعلم المستمر لاكتساب المهارات الجديدة.

2- قيم العصر:
يؤكد علماء الاجتماع والتربويون أن التربية في المجتمعات الحديثة ترتكز على ثلاثة مبادئ تشكل صُلب العملية الديمقراطية، هي: أولًا، معرفة المفاهيم المدنية ونظم وعمليات الحياة المدنية، وثانيًا: اكتساب مهارات المشاركة المدنية والقدرة على حلّ المشكلات والتفاوض، وثالثًا: الشعور بالانتماء إلى الوطن واكتساب القيم والأخلاق المشتركة. وبذلك يصبح الهدف من التربية هو إعداد مواطنين ناضجين ومسؤولين يعرفون حقوقهم وواجباتهم القانونية، ويمارسون مسئولياتهم الوطنية بإيجابية، ويطبّقون هذه المعرفة لتقييم السياسات والممارسات الحكومية والحزبية ونقدها نقدًا بنّاءً دون تعصب.
ويتطلب غرس تلك القيم توفير فرص تعلم تتسم بالديمقراطية، وبيئة تعلّم آمنة وعادلة، بحيث تترجم الديمقراطية فكرًا وسلوكًا، تبدأ مع المتعلم منذ الصغر، في البيت والمدرسة والمجتمع بكل مؤسساته التي يتواجد فيها الإنسان. وأيًّا كان المنظرون للديمقراطية، وأيًّا كانت منزلة المبشرين بها، فإن الأثر يكون من فعل التربية بمفهومها الواسع: مدرسة، ومنزل، ومؤسسات مجتمع.
وهناك علاقة وطيدة بين طبيعة الحكم والتربية، وهنا تبرز أهمية مقارنة مناخ التعليم في الدول التي تسودها أنظمة غير ديمقراطية والدول التي تسودها أنظمة ديمقراطية. ففي الأولى، نجد احتكارًا واضحًا لصياغة أنظمة التعليم ومناهجه بصورة تُمجّد الحاكم المتسلط أو الحزب الحاكم، وهناك تدخل في تعيين الكوادر التعليمية. ويكون المعلّم في تلك الأنظمة امتدادًا لدور الحاكم التسلطي والفردي أو الحزب الحاكم، فنجده لا يقبل النقاش، ويتفنن في قسوته على التلاميذ وقمع حرياتهم وحقوقهم، محاكيًا غلاظة السلطة وأجهزتها القمعية، ذلك أن طرق التدريس تتركز على أسلوب التلقين الذي يُحوّل المتعلم إلى مستقبل وغير مبادر، وتتعزز في ظل ذلك ثقافة الخوف والتردد، وشيوع ظاهرة الغش، وسيادة المحاباة في رصد درجات المتعلمين ونجاحهم، ويظهر - أيضًا - تمييزًا في المعاملة بين التلاميذ وحتى بين المعلمين. وكل ذلك يؤدي في النهاية إلى انتاج شخصيات ضعيفة أو منافقة، وأحيانًا متمردة عليه، فيكثر النقد الهامس بعيدًا عن مسامع المعلم والإدارة المدرسية؛ خوفًا من العقاب، وينتج عن ذلك، على المدى البعيد، مجتمع لا يُقدر المعرفة، يضم شخصيات مقلدة غير مبدعة، وضعيفة، وتختفي الشخصيات الناقدة والقوية. ويحدث تراجع حاد في عدد العلماء، كما أن مراكز البحث - إن وجدت - يكون دورها هامشيًا، لا تلعب دورًا مباشرًا في ترشيد السياسات والقرارات.
أما أنظمة التعليم في الدول الديمقراطية، فترتكز على قيم مهمة في التعليم، والتي تُعتبر مقياس النجاح في إعداد المواطن الملم بحقوقه وواجباته، وفيها يتم التأكيد على مفهوم المواطنة ودور المواطن في المجتمع الديمقراطي وحقوقه، والقدرة على التفكير والنقد والمحاسبة والمساءلة. ويتم الالتزام بضرورة مشاركة ممثلي المكونات الرئيسة في المجتمع عند صياغة نظام التعليم والأطر المرجعية لمناهجه. ويتم تعيين الكوادر على أساس كفاءتها في الأداء، وليس على أساس أي معيار آخر. ويكون المعلم في تلك الأنظمة مبدعًا وملهمًا للتلاميذ، فنجده يقبل النقاش، ويحترم تلاميذه، ويشجع مبادراتهم وأنشطتهم، ويوفر لهم بيئة آمنة للتعلّم بعيدًا عن الخوف والتردد. ويغلب على طرائق التدريس "التعلّم التعاوني" المنفتح على كل الأفكار. كما يختفي الغش، ولا يوجد فيه مجالًا للمحاباة والمجاملة في النجاح، ويعامل التلاميذ سواسية دون تمييز بينهم. وينتج هذا النظام شخصيات مبدعة، وقوية، وتختفي الشخصيات المنافقة أو المتمردة، ويختفي النقد الهامس. كما ينتج عنه زيادة في عدد مراكز البحث التي تلعب دورًا مباشرًا في ترشيد السياسات والقرارات، ويزيد عدد العلماء والباحثين.
هذه المقارنة تشير إلى عمق العلاقة بين نظام الحكم ونظام التعليم السائد. فإذا أردنا أن نتعرف على طبيعة نظام حكم ما، فما علينا سوى أن نتعرف على طبيعة نظام التعليم السائد فيه. فالقضية الأساسية ترتبط بالقدرة على منح العقل البشري فرصًا مناسبة لإطلاق طاقاته وتوفير مقومات إبداعه، أي أن التعامل مع العقل هو ما يميّز نظامًا عن آخر. في الأول يغيب العقل، ولا يسود إلا عقل الحاكم أو الحزب الحاكم ومن يدور في حلقته، وفى الثاني تتعدد فرص تمكين العقل من الإبداع والتفكير والعمل.
وهنا يبرز أهمية إصلاح التعليم في بلادنا، فلا يمكن أن نتصور في ظل مجتمع تسوده الأمية، وعدم الاعتراف بدور المرأة، وغياب مفاهيم الحقوق الاجتماعية والسياسية، لا نتوقع أن يسود نظام حكم ديمقراطي تشاركي يساهم فيه الجميع في عملية التقدم والتطور.
فالتربية صناعة حياة، من خلالها نصنع ما نريد من نوع البشر. فإذا أردنا الديمقراطية أن تكون منهجنا في الحياة، علينا أن نعمد إلى مناهجنا الدراسية وبرامجنا ومؤسساتنا الاجتماعية (إعلام، ومسجد، ونوادٍ) لخلق ثقافة ديمقراطية حقيقية. وإلى جانب ذلك يجب إعداد معلم كفء، يدرك أهمية ومستوى الأدوار المناطة به، ويعي كيف يتعامل مع تلاميذه، ويقود مسيرتهم التعليمية من خلال توفير بيئة تعليم ديمقراطية تتصف على الأقل بأنها آمنة ومشجعة على انطلاق الأفكار. وهذا يتطلب - أيضًا - تكاتف المنهج المدرسي والمعلم وبيئة أسرية داعمة - يعي كل عضو فيها دوره ومسئولياته تجاه تربية النشء، فتحترم إنسانية الصغار، وتُقدر كرامتهم، ويُستجاب لحقوقهم، وتُعطى لهم مساحة لإبداء الرأي وللتعبير عما يدور في أذهانهم من أفكار وتساؤلات.

 





جميع الحقوق محفوظه لدى صحيفة الوسط 2016 

التصيميم والدعم الفني(773779585) AjaxDesign