الصحافة البريطانية تكشف عن مضمون عروض امريكية مغرية لصنعاء        كهرباء عدن ....ماساة الصيف المتكرره تحت جنح الفشل والفساد الحكومي        غروندبرغ : نعمل على إطلاق الاسرى وتحسين القطاع الاقتصادي والمالي         مركز بحري دولي يحذر من سلاح يمني جديد      
    كتابات /
رؤية تحـلـيلـية نقدية للأزمة السياسية والوطنية الراهنة(7)

2010-08-25 20:13:18


 
كتب/ قادري أحمد حيدر إن الفراغ السياسي الذي أوجده العجز العربي تجاه القضية الفلسطينية، خاصة بعد غزو واحتلال العراق، والموقف العربي المتخاذل لأكثر من شهر تجاه العدوان الاسرائيلي على لبنان صيف 2006م وتجاه العدوان الاسرائيلي البربري الوحشي على غزة المحاصرة في ديسمبر 2008م يناير 2009م، واستمرار حصار غزة، وتجويع شعبها، حتى اللحظة، ووقف عملية إعادة الاعمار فيها، وتحول القضية الفلسطينية في أجندة الدول العربية إلى مجرد سلام في مقابل وقف الاستيطان، الذي لم تقبل به الحكومة الاسرائيلية، وإلى مجرد معابر، ومياه، وكهرباء، ودواء.  إن مجمل هذه المواقف العربية الرسمية من القضية الفلسطينية على وجه الخصوص، ومن القضية اللبنانية، أوجد مكاناً شاغراً وفراغاً في السياسة العربية تجاه المنطقة، كان لابد من أن يملأ، لأن السياسة لا تقبل بالفراغ ولا تحتمله، وهنا حضر الدور الايراني وتصاعد تأثيره في قلب القضية الفلسطينية، واللبنانية، بعد أن خرجت مصر من دائر الصراع العربي التحرري القومي، بعد توقيعها لاتفاقية كامب ديفيد 1997م، وتحولها إلى مجرد وسيط محايد بين اسرائيل، والسلطة الفلسطينية، إضافة إلى توقيع الاردن لمعاهدة وادي عربة، في عام 1996م، حيث بدأ الحضور والدور الايراني يتنامى ويتصاعد في المنطقة العربية، واليوم نشاهد تضخم الدور التركي، ومنافسته للدور الايراني، لاحتلال موقع قيادي في المنطقة، وفي عقر دارنا العربي، خاصة بعد الاعتداء الإسرائيلي على قافلة سفن الحرية في المياه الدولية وقتل تسعة أتراك في هذه العملية الوحشية ، حتى اصبحتا ايران وتركيا وكأنهما الناطقين الرسميين باسم القضية الفلسطينية في المحافل الاقليمية والدولية، وهنا يعلن الضعف العربي عن نفسه، وعجزه، في موقفه من أخص خصائصه الذاتية والقومية المتعلقة بالأمن القومي الاستراتيجي العربي، وهي قمة المأساة، والأزمة التي وصل إليها النظام السياسي العربي الرسمي، وهنا لا يمكننا تجاهل أو انكار الدور الايراني في عرقلة وكبح جماح المشروع الأمريكي - الاسرائيلي، في صورة الشرق الأوسط الكبير والموسع، وجميع المؤشرات والدراسات الاستراتيجية تؤكد انه مشروع لحماية اسرائيل، ولفرضها قائدة وحيدة للمنطقة، خاصة بعد احتلال العراق عام 2003م، وهنا يتقاطع الدور الايراني الاقليمي مع المصالح القومية لشعوب المنطقة، في صورة القضية الفلسطينية، وفي لبنان، وفي العداء لاسرائيل، دون نسيان أو اغفال ان للمواقف الايرانية دوراً وظيفياً يصب في خدمة المصالح القومية والاستراتيجية الايرانية، ومن هنا دأبها وسعيها لأخذها مكانة ودوراً اقليمياً في المنطقة تعمل على توظيف كافة الأوراق والملفات لصالحها، بما فيها الملف النووي الايراني، وهو ما يفسر توظيف الورقة الدينية المذهبية الشيعية من قبل دول الاعتدال الملحقة بالركب الأمريكي، لرفض الدور الايراني في المنطقة، وهو كذلك ما يفسر تصاعد حمى الصراع المذهبي: السني، الشيعي، وظهور مفهوم «الهلال الشيعي»، «والخطر الشيعي»، ومن هذه الثغرة المذهبية الطائفية، حاول خطاب الحكم الإعلامي في صنعاء ، توظيف تأثر الحركة الحوثية المسلحة بظاهرة التشيع السياسي الايراني، ومحاولة ربط الحوثية الزيدية، بالاثنا عشرية الايرانية، وبالمرجعية الدينية الايرانية كما يصرح بذلك خطاب الحكم، خاصة بعد اختلال موازين القوى السياسية، والعسكرية، والإعلامية، بين الطرفين عن ما كان عليه الحال في المستوى الأول من الحرب، وتراجع الهيمنة الإعلامية للنظام عن ما كان عليه الأمر في السابق، حيث شهدنا دخول الإعلام الايراني، السعودي، طرفاً في الحرب الإعلامية، بدأ وكأنهما يقودان المعركة على المستوى الإعلامي نيابة عن طرفي الصراع في الداخل اليمني، وهي بداية صريحة وعلنية لحضور ايران، والسعودية، في معادلة الصراع والحرب في اليمن، وإن كانت إيران تنكر ذلك. وعند هذا المستوى من الصراع والحرب بدأ الجانب الرسمي الحكومي يعترف بالمشكلة، وبدأ الخطاب الرسمي يتحدث عن توجه سياسي لدى الحوثيين بأنهم يطالبون برأس النظام، ويدعون إلى الانقلاب بالقوة المسلحة على النظام الجمهوري، وعودة الملكية، والإمامة، على قاعدة شرعية الإمامة في "البطنين". وفي هذا المستوى الثاني من القتال والمعارك، استوحشت الحرب، ووصلت المعارك إلى ضواحي العاصمة صنعاء، بحيث ظهر معها خطاب الحسم العسكري كخيار وحيد، وهو ما يعني انسداد الآفاق أمام حلول سلمية، وبداية حقيقية لأقلمة، وتدويل، الحرب، خاصة بعد ان وصلت الحرب إلى الحدود السعودية، في صورة اشتباكات مسلحة مع حرس الحدود السعودي، وقتل وجرح بعض جنود المملكة، وهي حالة انعطافية خطيرة في مسار الحرب وتطوراتها، قد تفتح البلاد، بل والمنطقة كلها في حال عودتها مجدداً ، على المجهول عسكرياً، وسياسياً، وأمنياً..، والشيء المخيف في هذا المستوى الثاني من الحرب، ان الحركة الحوثية المسلحة بدأت تعلن بوضوح عن قيامها بمناورات عسكرية على طريقة حزب الله في مواجهة ومقاومة اسرائيل، وكذا اعلانهم الشروع بإطلاق اسرى الحرب من الجنود والضباط الجنوبيين فقط، إضافة إلى ترحيب الناطق الرسمي باسم الحوثيين بوثيقة الحوار الوطني، وحديث الخطاب الإعلامي للحوثيين عن قيام غرفة عمليات مشتركة يمنية، سعودية، ومن أن سلاح الجو السعودي يشترك في القتال ضدهم، وهو ما أكدته التطورات العسكرية الأخيرة للحرب بين الحوثيين، والقوات العسكرية السعودية، علماً أن مجلس الوزراء السعودي كان قد أشار في أحد اجتماعاته الدورية إلى ضرورة حسم السلطة الموقف عسكرياً. والخطورة هنا ان الخطاب السياسي للحوثيين في الفضائيات الإعلامية بدأ يتكلم عن النظام اليمني في عموم اللفظ، ودور النظام اليمني في مواجهته لهم، دون تخصيص أو تحديد سياسي يشير إلى الحكومة أو السلطة، مما قد يعطي انطباعاً أو ايحاءً اننا أمام ثنائية عرقية، وهو أمر خطير يجب مراجعته وبحثه بدقة وعمق حتى لا نقع في المحظور. ويمكننا هنا القول أن الخطاب الإعلامي والسياسي لطرفي الحرب في صعدة، كان قد بدأ يفقد رشده السياسي، وعقلانيته، وحكمته، وبدأ يتسم بالغضب، والعنف، والانفعال، والعاطفة الجياشة، التي طغى معها البعد الدعائي والتحريضي السياسي والمذهبي وظهر العامل الخارجي بقوة في الحرب الإعلامية (ايران / السعودية)، ومن المهم هنا تأكيد أن التدخل الإعلامي الخارجي في الحرب ومجرياتها يعقد المشكلة أكثر، كما انه عملياً ، وسياسياً ، يجرد الحرب من طابعها الداخلي الوطني، ويضعف الشرعية السياسية والوطنية لها، وفي تقديرنا أن رفع السقف الإعلامي السياسي المذهبي لا يخدم الطرفين، ويذهب بالصراع بعيداً إلى الدائرة الاقليمية، والدولية أكثر فأكثر، وما تزال الفرصة لم تضع بعد، وسانحة حتى الآن أمام الجميع للعودة إلى الحوار، وإلى الخيارات والحلول السياسية السلمية، بعيداً عن الحلول التكتيكية الجزئية في صورة اتفاق إيقاف المعارك ،أو العمليات العسكرية ، وخطاب الست النقاط الفارغ من المعنى ، ذلك أن الحرب ما تزال حقيقة مستمرة بهذا الشكل أو ذاك في صورة ما يجري داخل صعدة الآن ، لأن استمرار الوضع على ما هو عليه قد يفتح البلاد، بل والمنطقة كلها على المجهول، وعلى الحكم إذا أراد الحفاظ على مصالحه الخاصة، وليس على المصالح الوطنية الكلية، المساهمة في جر جميع اطراف المعادلة السياسية والوطنية اليمنية إلى مائدة الحوار، فالحوار هو الفضاء الأجمل والأوسع لممارسة السياسة، ولا سياسة بدون حوار، «فإذا لم يستطع الناس حل أزماتهم بإرادتهم، فإن هذه الأزمات سوف تحل نفسها بنفسها، وبطريقة غير منظمة حسب قول محمد حسنين هيكل، إن من المهم العودة إلى الخيارات السياسية، وإلى مائدة الحوار، عوضاً عن الحرب، خاصة وأن قرار الحرب والسلم ما يزال حتى اللحظة بيد السلطة، حتى تتقدم بخطوات جريئة وشجاعةة باتجاه تسوية سياسية وطنية تاريخية، وعقد اجتماعي جديد للوحدة، يقوم على الشراكة في السلطة والثروة، وعلى المشاركة في صناعة القرار السياسي والوطني، على قاعدة العدالة، والمواطنة، والدولة المؤسسية الحديثة، ولا خيار أمامنا سوى الحلول السياسية والمعالجات الوطنية والدستورية الشاملة والعميقة لكل ما يجري في الوطن، من القضية الجنوبية، إلى حرب صعدة. إن اليمن الديمقراطي الموحد المنشود هو الذي يحمي اليمن (شمالاً وجنوباً) من التمزق، والتشتت، وينتج آفاقاً سياسية وواقعية لنموه، وتطوره، وتقدمه الاجتماعي بعيداً عن دورات العنف والحروب المستدامة. ثالثاً : الأزمة الاقتصادية: إن الأزمة الاقتصادية هي البعد الثالث من ثلاثية مظاهر الأزمة البنيوية السياسية والوطنية العميقة الشاملة. وبقراءة وتحليل بُعد الأزمة الاقتصادية، تكون رؤية حزبنا قد استكملت بحث وتحليل ونقد أركان ثلاثية الأزمة السياسية والوطنية الراهنة. واذا كان للأزمة الاقتصادية شيءٌ من الجذور التاريخية بهذه الدرجة أو تلك، مرتبطة بتجارب البناء الاقتصادي السابقة، على أنها قطعاً لم تتخذ ولا في أية مرحلة من مراحل التشطير هذا المستوى الكارثي والخطير من مستويات الأزمة الاقتصادية. فالأزمة الاقتصادية الراهنة في شكلها وفي مضمونها هي تعبير عن انقلاب جذري على المسار الاقتصادي والتنموي لتجربتي التطور والبناء الاقتصادي في الشطرين، وانقلاب على مبادىء وأهداف ثورتي 26 سبتمبر و14 أكتوبر، وكذا تراجع عن المضامين الاقتصادية والدستورية لوحدة 22 مايو 1990م، والتي أكدت جميعها على العدالة الاقتصادية والاجتماعية. والدستور اليمني في مادته السابعة ينص على أن يقوم الاقتصاد الوطني على أساس حرية النشاط الاقتصادي، بما يحقق مصلحة الفرد والمجتمع. ويشمل ذلك العدل الاجتماعي في العلاقات الاقتصادية، والتنافس بين القطاع العام، والخاص، والمختلط، وحماية واحترام الملكية الخاصة، ما لم تتعارض مع المصلحة العامة. وبموجب المادة (42) تلتزم الدولة بكفالة تكافؤ الفرص لجميع المواطنين اقتصادياً. وتكفل المادة (24) لكل مواطن حق الإسهام في الحياة الاقتصادية. ويكفل الدستور الحقوق الاقتصادية والاجتماعية المتمثلة بالحق في العمل، والتعليم، والرعاية الصحية، والخدمات الاجتماعية طبقاً للمواد (23)، (82)، (92)،. إن الدستور اليمني على كل التعديلات والتغييرات التي لحقت به يتيح مساحة كبيرة من الحقوق الاقتصادية، ويفسح فضاءً واسعاً للتسامح الاقتصادي. كما يحفظ الدستور التوزيع العادل للثروة، وينص على إزالة الفوارق بين الطبقات، وعلى مشاركة جميع القطاعات الاقتصادية في عملية التنمية، والانتاج. ونستطيع القول أن الأزمة الاقتصادية تعمقت بصورة أكبر، مع ترسخ الحكم العصبوي، الفردي، المركزي. وليس دقيقاً إحالة الأزمة الاقتصادية في تجلياتها القائمة إلى أوضاع تاريخية، وتحميل مسؤوليتها التخلف التاريخي، أو شحة الموارد الاقتصادية. إن السياسات الاقتصادية الخاطئة، وأسلوب نهب الثروة الوطنية للشعب، والذي جرى بصورة منظمة وواعية ومدروسة على قاعدة توزيع الريع على الولاءات الشخصية وجماعات المصالح، خاصة من بُعيد حرب 1994م ، هو موضوعياً وسياسياً وعملياً ما أنتج الأزمة الاقتصادية المتفاقمة الراهنة. إن الصلة الوحيدة للأزمة الاقتصادية الراهنة بتاريخ البناء الاقتصادي السابقة على وحدة 22 مايو 1990م، هي: أولاً: الطبيعة التقليدية المتخلفة للاقتصاد وتزاوج حضور الأشكال والقطاعات الاقتصادية الرأسمالية، وما قبل الرأسمالية على حد سواء. وثانياً: غلبة الطابع الزرعي والخدمي السلعي، على الصناعي والانتاجي والتكنولوجي والعلمي، وهي حالة أو ظاهرة تشترك فيها اليمن مغ غيرها من البلدان العربية والنامية، على أن بُعدي الأزمة الأولين المشار إليهما وهما: القضية الجنوبية، وحرب صعدة في طبعاتها الست، فإنهما نتاجان سياسيان موضوعيان لواقع حرب 1994م ونتيجتان من نتائجها. ومن المهم هنا تأكيد أن استمرار مظاهر ثلاثية الأزمة القائمة، وبالصورة الجارية، هو فوق قدرة الوطن على احتماله، وقد يقود إلى تفجير المجتمع، وانفلاش النظام وتفككه، بل وحتى انهياره، كما تشير بعض التقارير الاقتصادية، والتحليلات السياسية الاستراتيجية الاقليمية، والدولية. ومن هنا تأتي الأهمية السياسية والوطنية والتاريخية لمساهمة الجمبع في تقديم رؤى تشخيصية نقدية لواقع الأزمة السياسية الوطنية الراهنة .إن الخطورة تتمثل اليوم في إهمال أو إزاحة البُعد الاجتماعي في التنمية الاقتصادية، وإدراج بُعد الديمقراطية السياسية عوضاً عن المسألة الاجتماعية أو القضية الاجتماعية، بحيث تحولت معه الديمقراطية إلى عصا سحرية في التنمية الاقتصادية. ويمكننا القول أن قسماً كبيراً من واقع الأزمة الاقتصادية اليمنية الراهنة جاء نتاجاً للتدابير والإجراءات الاقتصادية التصفوية التي أتخذت بُعيد حرب 1994م ، وهيمنة خطاب التحول نحو اقتصاد السوق دون بنية تحتية أساسية لذلك، وبدون تخطيط سياسي، اقتصادي، اجتماعي، استراتيجي، وبدون رؤية اقتصادية وطنية عقلانية تراعي التوازنات الاجتماعية، ومصالح الفئات والشرائح والطبقات الاجتماعية الواسعة في البلاد. وليس بخاف اليوم على أحد أن مضمون التحول الاقتصادي نحو اقتصاد السوق والخصخصة، كان مخالفة دستورية وقانونية، وأن قسماً كبيراً منها تم حتى قبل صدور قانون الخصخصة. وذلك عبر إجراءات وممارسات اقتصادية حكمتها ثقافة سياسية جهوية، وتصفية حسابات سياسية مع دولة الشريك السابق في صورة اقتصاد دولة الجنوب، تمثلت في صورة نهب وغنيمة وفيد معظم البنية التحتية الاقتصادية الانتاجية لدولة الجنوب، التي تم تفكيك قسم كبير من بنيتها الاقتصادية بُعيد الحرب مباشرة، وتم نقلها إلى الشمال عبر قاطرات وناقلات تذكرنا بتاريخ حروب السلب والفيد التاريخية في العصور القديمة، ودون أي اعتبارات اقتصادية تنموية، فقط أُخذ من ذريعة خطاب اقتصاد السوق والانتاج الاقتصادي وإعادة الهيكلة والخصخصة مبرراً اقتصادياً للسير بخطى حثيثة لجعل اقتصاد دولة الجنوب السابقة غنيمة حرب وفيد، وأسلاب لتجار النصر المزعوم، قادة وهم النصر، من أمراء الحرب، والنافذين السياسيين، أو الموالين لهم. إن الإجراءات الاقتصادية القسرية التي أتُّخذت إثر الحرب مباشرة، وما بعدها، تجاه اقتصاد دولة الجنوب السابقة، أفرز موضوعياً، مشكلات حقوقية، وسياسية، واجتماعية، ووطنية، خطيرة، وُضع معها القسم الكبير من جيش، وأمن، وموظفي دولة الجنوب السابقة تحت طائلة الفقر، والبطالة، والجوع، والفساد، الذي أصبح حاكماً ومنظماً للعملية الاقتصادية كلها. حتى أننا نستطيع أن نسمي الحالة أو الوضع الاقتصادي الذي تشكل بُعيد حرب 1994م بأنه اقتصاد الفساد والنهب والفيد ، انهم يقولون ويسلمون بضرورة إعادة الهيكلة، وبرامج التثبيت والتكيف الهيكلي، (الخصخصة)، واقتصاد السوق الحر، ويقومون بنقل وتوظيف أحدث أشكال التقانة القمعية الأمنية، وكذا نقل أحدث وسائل الإعلام المعاصرة، ولكن مع وقف تنفيذ الوجه الآخر من الليبرالية الاقتصادية وهو الليبرالية السياسية والحريات، ويقفون في واقع الممارسة ضد اعتماد شروط الليبرالية السياسية في إدارة السلطة والمجتمع، وفي جعل مبدأ التداول السلمي للسلطة حقاً أساسياً من حقوق المواطنة، كمدخل للحديث عن الدولة الوطنية المنشودة، مع الإصرار على إبقاء البنية العسكرية والقبلية تؤدي الدور الأعظم في جهاز الحكم وفي إدارة النظام السياسي، والاقتصادي، وهو ما يتناقض مع اقتصاد السوق "الحرة". ولذلك لم يؤد اقتصاد السوق المزعوم سوى إلى نهب الثروة الوطنية، وتوسيع قاعدة الفقر، والبطالة، والتضخم، والانكماش في الحالة الاقتصادية كلها، ليصل من يقعون تحت خط الفقر إلى أكثر من 59%، مع توسع مخيف للفجوة بين الأغنياء والفقراء، وتفكيك وتدمير الطبقة الوسطى. ولم يتحقق على المستوى السياسي والاجتماعي شيءٌ من التعددية الاقتصادية والاجتماعية، قدر ما اتسعت مساحة المهمشين اقتصادياً واجتماعياً. كما لم تؤد أية حالة من العمليات الانتخابية، سواءً الرئاسية أو البرلمانية أو المحلية، إلى حالة واقعية في تداول السلطة. والارقام والمؤشرات تدل على ذلك. وما نشهده فقط هو أن الحكم العصبوي، الفردي، المركزي، يتحول تدريجياً من حالة العصبية، إلى ما يشبه العصابة أو الحكم الأسروي . لقد أدخل الحكم العصبوي، الفردي، المركزي، المتخلف، اقتصاد البلاد كلها بُعيد الحرب في نطاق نظام توزيع الريع، حسب شروط منظومة الولاء الشخصي، وانطلاقاً من مواقف الأفراد، والجماعات من الحرب العسكرية، ونتائجها السياسية، ومن دورها المباشر في الحرب، وفي منظومة الولاء بعد ذلك، تحددت بموجبه حصتها من ريع الحرب الاقتصادية، كل بحسب دوره، ومكانته، في التراتبية الاجتماعية القبلية العسكرية، وحسب تسلسله في منظومة الولاء. وما تسرب من تقرير باصرة/هلال خصوصاً يكشف حجم الفيد والنهب لاقتصاد دولة الجنوب السابقة، ومن ثم توزيعه حسب حصص ريع الحرب ، وخاصة فيما يتعلق بقضية الأرض . إن نظاماً سياسياً يؤسس نفسه، ومعنى وجوده، ودوره في المجتمع، وفي الاقتصاد، على هذه القاعدة القروسطية، لمعنى النظام السياسي، قطعاً لا يمكنه أن يقبل بحضور الدولة، ولا سلطة القانون والدستور والنظام، (أنا الدولة والدولة أنا). إن سلطة القانون هي ثقافة مدنية، وتعكس روح وقيم الدولة الوطنية المؤسسية الحديثة. ومن هنا توجه نظام الحرب بعد العام 1994م إلى تصفية معنى وجود الدولة في الجنوب مادياً ومؤسسياً وقانونياً واقتصادياً، وحتى المعنى المعنوي القيمي التاريخي الذي تشكل عبر قرون، جرت عملية مدروسة لطمسه وتجريفه وتفريغه من معناه الحقيقي. ومن هنا تسميتنا للنظام القائم بالحكم العصبوي، الفردي، المركزي، المتخلف الذي لا صلة له بمعنى الدولة الحديثة بأي معنى من المعاني، ولا علاقة له بالتنمية الاقتصادية، والعمل الانتاجي الاقتصادي، فشرط وجوده الأساسي مناقض لقيام ووجود أي تنمية اقتصادية إنتاجية. لقد اتكأ الحكم العصبوي، الفردي، المركزي، على مقولات اقتصادية جاهزة ناجزة، حول اقتصاد السوق، وإعادة الهيكلة الاقتصادية، وبالخصوص على قضية الخصخصة، التي ذهبوا بها بعيداً في نهب اقتصاد البلاد، بحيث تم معها نقل الملكية الاقتصادية، الاجتماعية الوطنية للشعب، وتحويلها إلى ملكية خاصة للنافذين، وأمراء الحرب، مع بقاء بعضها في أيديهم وتحت تصرفهم الشخصي المباشر، ونموذجها الصارخ ما كان يسمى بالمؤسسة الاقتصادية العسكرية، التي تحولت بقدرة قادر إلى مؤسسة اقتصادية تجارية عامة، وغيرها، وهي عملية حسابية سياسية ليس لها أية علاقة باقتصاد السوق، ولا بالليبرالية الاقتصادية الرأسمالية التاريخية. تم معها مصادرة وضرب دور الدولة التقليدي في الرعاية الاجتماعية (الصحة، التعليم، الضمان الاجتماعي، الخدمات الأساسية)، بحيث صارت معه جميع الخدمات الاجتماعية والإنسانية الأساسية مرسملة ضريبياً، وبصورة وحشية تعكس شراهة وجشع الفئات الطفيلية التي لا صلة لها بالاقتصاد، ولا بالانتاج، ولا بالعمل، كقيمة إنسانية، رسملت معها جميع الخدمات الحيوية الأساسية للشعب: الماء، الكهرباء، حتى مجاري الصرف الصحي، وآخرها ضريبة المبيعات التي تتحمل تبعاتها الضريبية المالية الباهظة الفئات الاجتماعية الفقيرة، ناهيك عن التوجهات الاقتصادية المتسارعة لرفع الدعم مطلقاً عن كافة السلع الأساسية، بما فيها البترول ومشتقاته. إن وصفات ما يسمى بالإصلاح الاقتصادي التي تشترطها منظمتا التمويل الدولية (الصندوق والبنك الدوليين)، إنما تعكس سياسات نمطية، ومكررة، يتم تطبيقها في العديد من البلدان العربية، وحتى في بعض البلدان الاشتراكية السابقة التي كانت تمر بمرحلة انتقالية، وتهدف تلك السياسات إلى تحقيق وفورات في الموارد عبر السياسات الانكماشية، وعن طريق تحجيم دور الدولة الاقتصادي والاجتماعي، بل وحتى إلغائه، كما هو التوجه لدينا، وكذلك عبر الخفض الهائل على الإنفاق الحكومي، وخصوصاً الإنفاق على التعليم، والصحة، والخدمات الاجتماعية الأساسية، ناهيك عن خفض معدلات الاستثمار العام. إن هذا النوع من الإصلاحات (وفقاً لاشتراطات صندوق النقد، والبنك الدوليين) يهمل تماماً الأبعاد الاجتماعية والإنسانية لعملية الإصلاح والتنمية الاقتصادية، وهو عملياً يحمل الطبقات والشرائح الاجتماعية الفقيرة الواسعة أعباء وتكاليف الإصلاحات، دون الفئات والشرائح الأكثر غنى، والأكثر استفادة ودخلاً من تلك الإصلاحات. وبالتالي لابد من المطالبة والعمل الجدي بعكس المعادلة لتتحمل الشرائح المستفيدة من الإصلاحات أعباء هذه الإصلاحات الاقتصاديةالمزعومة، وان تتغير منهجية ومضامين الإصلاحات النمطية والتقليدية التي يفرضها الصندوق، والبنك الدوليين على البلدان النامية، والعربية منها على وجه الخصوص، والتي تتضمن سياسات إقصائية يتحمل أعبائها الأغلبية الواسعة من شرائح المجتمع الفقيرة، دون غيرهم من الفئات الغنية، المستفيدة من الإصلاحات. إن اقتصاد السوق الحر، أو الليبرالية الاقتصادية تستدعي بالضرورة ليبرالية سياسية وديمقراطية، وحريات اجتماعية، ما يعني مشاركة شعبية سياسية في التنمية الاقتصادية، وليس فقط إعادة هيكلة اقتصادية كيفما اتفق، ولصالح نافذين معينين وبالاسم في معظم الأحيان ، كما أن اقتصاد السوق يعني وجود دولة وطنية مؤسسية حديثة، وسلطة قانون، وقضاء نزيه ومستقل، وإدارة مدنية حديثة، كما يتطلب إدارة اقتصادية وفنية كفؤة ومدربة ومؤهلة، وموظفين عموميين أكفاء يعتمدون على قاعدة الكفاءة والخبرة، وليس على قاعدة منظومة الولاء الشخصي للحكم العصبوي، الفردي. كما أن اقتصاد السوق يتطلب ضمانات قانونية لحقوق المواطنين، وحداً أدنى من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وهو ما يعني عدم ترك العملية الاقتصادية مفتوحة بدون ضوابط، وإقصاء دور الدولة بشكل كامل، وفي غياب من المشاركة الديمقراطية الشعبية، علماً أن دور الدولة الاقتصادي والاجتماعي ما يزال قائماً ومستمراً حتى في أغنى وأعتى قلاع الرأسمالية العالمية، وجاءت الأزمة المالية الاقتصادية العالمية التي ما تزال آثارها وانعكاساتها السلبية مستمرة على اقتصادات العالم كله، وبعدها أزمة دبي المالية العالمية، لتؤكدان من جديد على أهمية الدور المحوري للدولة في التنمية الاقتصادية الاجتماعية.   لقد رفضت قوى الفساد والحرب، طيلة الفترة الانتقالية، المساعدة في تقديم أية معالجات سياسية واقتصادية وقانونية وحقوقية وتشريعية ومؤسسية لاستمرار دولة الوحدة بصورة سلمية وديمقراطية، وإنما جرى التراجع عن ما كان من إيجابيات في دولتي الشطرين، وفقاً لقاعدة الأخذ بالأحسن، كما نصت على ذلك اتفاقات الوحدة، وتمت في الاتجاه نفسه عرقلة تنفيذ برنامج الإصلاح الاقتصادي والبناء الشامل الذي أقره البرلمان في ديسمبر 1991 مثل ما تم عرقلة وتجميد العديد من القوانين والتشريعات، بما فيها عرقلة قانون التعليم الموحد بعد إقراره في البرلمان لحسابات سياسية صرفة ومكايدات. إن المطالبة بإعادة تصحيح وإصلاح مسار العملية الاقتصادية، وتصويب خطها واتجاهها التنموي الاجتماعي الوطني، صار اليوم حاجة سياسية ووطنية، بل وحتى ضرورة أخلاقية وإنسانية، تصحيح المسار الاقتصادي بما يحقق قدراً معقولاً ومطلوباً من الديمقراطية الاجتماعية، وفي سياق دور قيادي أو أساسي للدولة، بعيداً عن هيمنة سلطة رموز الفساد التي تنخر في جسد ما تبقى من الاقتصاد الوطني، وتشوه بالضرورة العملية السياسية الديمقراطية، وتجعل من التعددية حالة مقيدة بشروط الاستبداد، مهمتها إعادة إنتاج الحكم العصبوي الفردي عبر انتخابات دورية شكلية زائفة لا تعكس إرادة المجتمع والناس ، ولا مصا لحهم .




جميع الحقوق محفوظه لدى صحيفة الوسط 2016 

التصيميم والدعم الفني(773779585) AjaxDesign